
قد تتعلم فِرَق العمل الجراحية من الأوركسترا كيفيّة الاستفادة من استخدام مساحة المنصة، حين لا يُسْعِفهم الوقت.
كانت لدى أخصائي في الكيمياء التحليلية، يُدعى ماثيو لويس، مشكلة، تتمثل في أنه عندما حاول أن يشطر حصى مرارة؛ لتحليلها بواسطة تقنية “قياس الطيف الكتلي”؛ تفتّتت، بدلًا من أن تنشطر. اقترحت كاثرين كولمان – الفنانة في مجال المشغولات الزجاجية – حلًّا لهذه المشكلة باستخدام آلة خاصة تُستعمل في طحن العدسات، وتكون منصوبة على مخرطة قابلة للحمل. هذه الآلة بإمكانها كَشْط الحصوة بلطف؛ لشَقّ قطاع مستوٍ نظيف فيها.
ووصف لويس – الذي يعمل في قسم الأنظمة الطبية المحوسبة في الكلية إمبيريال في لندن – ذلك بقوله: “كان الأمر بمثابة إلهام بالنسبة إليّ باكتشافي أن الأداة التي تعمل بها كاثرين أكثر ملاءمةً لتطبيقاتنا من الأدوات التي نستخدمها نحن”.
في الجوار، في مستشفى “سانت ماري”، التابع لكلية إمبيريال، حدّدت فلور أوكس – التي تمتهن التطريز – تقنيات تستخدمها في عملها الفني، يمكنها أن تحسِّن من قدرة الجَرّاحين على التحكّم في الغُرَز الجراحية الدقيقة عند وصل الشرايين ببعضها البعض. تعمل أوكس – صانعة “الدانتيل”، المقيمة في وحدة جراحة الأوعية الدموية – مع فريق من الأطباء الإكلينيكيين؛ لابتكار برنامج دراسيّ يهدف إلى التغلب على مشكلات تشابك الخيوط أثناء التقطيب في العمليات الجراحية.
هذا النوع من التعاون المتشعب هو جزء من البرنامج الدراسي الذي أديره في كلية أمبيريال في مجال علم الاشتباك والأداء. وفي إطار هذا البرنامج، يعمل علماء الأحياء والطب الإكلينيكي في قسمَي الطب المُحوسب، والجراحة مع خبراء ممارسين، وأكاديميين من نقابة العاملين بالفن Art Workers’ Guild، والكلية الملكية للموسيقى، ومعهد البحوث في متحف فيكتوريا وألبرت؛ لاستكشاف أساس مشترك في التَّعلُّم التلامسي، أي كيف نتوصّل إلى اكتشافات في العِلْم والحِرف اليدوية، من خلال التطبيق العملي (J. Kiverstein and M. Miller Front. Hum. Neurosci. 9, 237;2015). لم تَعُد مجالات العلوم والطب معرفية خالصة أكثر مما هو الحال مع الفنون، فالاعتماد الكامل يكون على الأداء، والقدرات التقنية، والملاحظة، والمهارة، والقدرة على العمل تحت الضغط.
بعد أكثر من عشر سنوات في هذا المضمار، تعلمتُ أنّه لا بدَّ من تأمين الظروف اللازمة لحصول الصدف، عمدًا. وبرنامج “إمبيريال” ليس برنامج تعاون تصوُّري بين العلم والفن، لا يأتي غالبًا إلا بمنافع هامشية للعلماء، إنّما هو قائم على الاتصال الفيزيائي على مستوى الفعل والعمل اليدوي (وهي حرفة العِلْم). اكتشفنا أنّ هذا التعاون قاد إلى تغيير في المنهج، فزاد مثلًا وَعْي الجَرّاحين عند اشتغالهم بغرز الخياطة الجراحية، وكذلك ألهمهم ذلك تجريب تقنيات جديدة فيها. لذا.. قد يصقل التعاونُ مع خبراء من مجالات مختلفة فرضياتنا؛ لتحلّ محلها رؤى جديدة.
على سبيل المثال.. تكشف راشل وار عن أهمية فن تحريك الدُّمى بالنسبة إلى الجراحة. وتوضح وار – التي تُعَدّ واحدة من أشهر مديري فن تحريك الدُمى المستقلين، وتشغل منصب المدير الفني للمسرح اللندني، دوتيد لاين – كيف أن محرّكي الدُّمى يبدأون تدريباتهم بسلسلة متتابِعة من تمارين الأصابع والأيدي، لتحضيرها لإتقان العمل المُعقّد في تحريك قضبان أو خيوط الدمى المتحركة. بالإمكان تطبيق تدريبات مشابِهة في الجراحة؛ لتحسين مستوى تحكُّم الإصبع، وتحريكه بدقّة. وقد تُحسِّن مجموعة تمارين الإحماء قبل الأداء من العمل الجماعي للفريق الجراحي.
كما وضّح ديفيد هوكينجز – ضابط الإيقاع الرئيس في أوركيسترا بي.بي.سي البريطاني – كيف يتعامل مع زملائه الموسيقيين وآلاتهم على منصة ضيقة، وكيف يدور التفاوض الجماعي على مشاركة مساحة المنصة خلال عرض ما عندما يكون الوقت ضيقًا. وباستخدام الموسيقى المعاصِرة المعقدة – لسيمفونية ليرا أورباخ The Infant Minstrel and His Peculiar Menagerie – كشف هوكينجز كيف يخلق بعض الأفراد من الخبراء مجموعات جديدة لأداء مهام صعبة في ظل ظروف ضاغطة. يُلقي هذا الضوء على حالة مماثِلة في جراحة مع “فريق زائر”، حيث يتعيّن على الجراحين وأخصائيي التخدير والممرضين سرعة صياغة أشكال تعاون في العلميات الطارئة عالية المخاطر.
يعمل الساحر ريتشارد ماكدوجال (صاحب العضوية الذهبية في حلقة السحر البريطانية Britain’s Inner Magic Cirlce) مع فريق لجراحة الأعصاب في مستشفى “سانت ماري”، بقيادة مارك ويلسون، المتخصص في حالات الرضح العصبي. يتطلّب تعلُّم الخدع – حتى البسيطة منها – الكثيرَ من التدريب؛ فعلى المؤدي أن يتقن تمامًا أداء المهارات الحركية الدقيقة، والتواصل مع الجمهور. سيعمل ماكدوجال وويلسون على تدريس تقنيات السحر للأشخاص الذين أصيبوا إصابات مفاجئة في الرأس، ويخضعون لإعادة التأهيل، وذلك كمساعد تحفيزي للعلاجات التقليدية.
وقد بدأت بالفعل تظهر قيمة هذا النوع من التعاون. ومع الوقت، قد يكون لبعضها تأثير يمكن إثباته على الممارسة العلمية والطبية. إنها تجارب بالطبع، ولذا.. فإن الشك يبقى قائمًا، لكن في جوهرها تكمن نية التعاون والتفكير غير النمطي.
إنّ العِلْم والطب قادران على تطوير اكتفاء ذاتي مدهش، وترويج اعتقاد بأنّ كل شيء يجب تعلُّمه يمكن إيجاده في عوالمهما التخصصية، إلّا أنّ الانخراط مباشرة في ممارسات الحرفيين والمؤدِّين يكشف طريقًا آخر.
لطالما قلّلت الحكومات المتعاقبة مِن شأن وقيمة المَعارف التي تكتنفها العلوم، والحِرَف، والتجارة. وتقعرت المناهج الدراسية، اعتقادًا بأنّ الفعل اليدوي والعمل هما أدنى مكانةً من التفكير. وقد اختُصرت البرامج التعاونية الجامعية وبُترت، وبات الاستكشاف سَخِيّ الأفق بين المجالات المختلفة مهدّدًا، بالرغم من أنّ الفعل والتفكير جانبان لعملة واحدة. ومِن مصلحتنا أن نحمي بالوصف، والشرح، والتشجيع ما يمكن فقدانه، ألا وهو “الحرفة الراسخة” في العِلْم والطب.
المصدر