الدفع الجيني يواجه مقاومة

قوى التطوّر قد توهن من قدرة تقنيات الدفع الجيني على تغيير الكائنات الحية في بيئتها الطبيعية.

أنثى البعوض البالغة، بعد تعديلها وراثيًّا بواسطة تقنية الدفع الجيني؛ بهدف تعقيمها.

أنثى البعوض البالغة، بعد تعديلها وراثيًّا بواسطة تقنية الدفع الجيني؛ بهدف تعقيمها.

Kevin Frayer/Getty

في مدينة تيرني الصغيرة بوسط إيطاليا، يضع الباحثون اللمسات الأخيرة على ما يمكن أن نُطْلِق عليه أكثر أقفاص البعوض تطورًا في العالم. تبلغ مساحة كل من هذه الأقفاص 150 مترًا مربعًا، وتُحاكي البيئة شديدة الرطوبة والحرارة التي تزدهر فيها بعوضة الملاريا الأَنُوفيلة الجامْبِيَّة (Anopheles gambiae) في أفريقيا. يأمل العلماء العاكفون على دراسة البعوض في ظروف طبيعية أكثر أن يتوصلوا إلى فهْم أفضل؛ يرشدهم إلى سبل للقضاء عليها – وعلى الملاريا – باستخدام تقنية هندسة وراثية ناشئة، تُعرف بـ”الدفع الجيني”.

تتيح هذه التقنية بثّ تعديلات جينية في مجموعات من الكائنات الحية في بيئتها الطبيعية بسرعة، عبر نسلها، ممّا دفع بعض الناشطين للمطالبة بالامتناع عن استخدامها. ومع ذلك.. قد لا يكون الدفع الجيني فعّالًا بالقدر الذي يعتقده هؤلاء الناشطون. فقد أظهر بحثٌ جديد وجود عقبة كبيرة تعترض قدرة الدفع الجيني على القضاء على الأمراض وقهر الحشرات الضارة؛ ألا وهي التطوُّر.

تُظْهِر الكائنات الحية – بما فيها البعوض – التي يجري تعديلها وراثيًّا باستخدام الدفع الجيني نتائج واعدة في إطار التجارب المعملية، لكن غالبًا ما ستُطوِّر الكائنات الحية في بيئتها الطبيعية مقاومةً مضادة لهذه التغييرات. وبدأ الباحثون في دراسة كيفية حدوث ذلك؛ ليتمكنوا من معالجة الأمر.

يعطِّل الدفع الجيني قوانين الوراثة في الكائنات الحية التي تتكاثر جنسيًّا. ويكون عادةً لدى النسل فرصة بما يعادل 50:50 في وراثة جين من كلا الوالدين. يغيِّر الدفع الجيني هذه النسبة بالانحياز إلى نسخة واحدة من الجين؛ لتمريرها إلى نسل الكائن الحي؛ حتى يحمل جميع أفراد المجموعة ذلك الجين، من الناحية النظرية.

تنشط مثل هذه العوامل الجينية “الأنانية” طبيعيًّا في الفئران، والخنافس، وكائنات حية أخرى كثيرة، بينما لم يحرز الباحثون حتى الآن إلا نجاحًا متواضعًا في توظيف هذه العوامل في مكافحة الآفات، إلّا أن الاهتمام بالدفع الجيني تزايَد مع ابتكار تقنية التحرير الجيني “كريسبر-كاس9” CRISPR-Cas9، التي بالإمكان استخدامها لنسخ طفرة جينية من كروموسوم إلى آخر.

في أواخر عام 2015، أبلغ الباحثون عن عملية دفع جيني باستخدام “كريسبر”، يسبب طفرة عُقم لدى إناث البعوض؛ لتمريرها إلى سائر النسل1. بيّنت تجارب المختبر أن وتيرة حدوث الطفرة ازدادت كما هو متوقع عبر عدة أجيال، لكن أيضًا ظهرت معها مقاومة للدفع الجيني؛ لتمنع بعض البعوض من وراثة الجينوم الذي طرأ عليه التغيير.

وكما يعتقد فيليب مِسير، اختصاصي الوراثة السكانية في جامعة كورنيل في إيثاكا في نيويورك، فإن هذا ليس بالأمر المفاجئ، فمثلما تؤدي المضادات الحيوية إلى نشوء البكتيريا المقاوِمة للأدوية، يوفّر الدفع الجيني الكابت للكائنات الحية الظروفَ المثالية لازدهار كائنات حية مقاوِمة.

أحد مصادر هذه المقاومة هو نظام “كريسبر” نفسه، الذي يَستخدم إنزيمًا لقطع تسلسل حمض نووي معيّن، وإدخال أي شفرة جينية يريدها الباحثون، لكن عرضيًّا.. تُعِيد الخلايا خياطة موضع القطع، بعد إضافة أو حذف أحرف عشوائية من الحمض النووي. وقد يؤدي ذلك إلى نشوء تسلسل جيني، لا يتعرّف عليه نظام “كريسبر” للدفع الجيني؛ وبالتالي يعوق انتشار الشفرة التي أُحدِث فيها التغيير.

وجد الباحثون الذين يبنون أقفاص البعوض في إيطاليا – كجزء من مشروع بملايين الدولارات؛ لاستهداف الملاريا، يُسمى “Target Malaria” – هذه الصورة من المقاوَمة لدى بعض البعوض. وقد أبلغ فريق فيليب مِسير في ديسمبر الماضي أنّ هذه الكائنات المتحوّلة من المرجّح أن تزدهر2.

تُعَدّ التنوّعات الوراثية الطبيعية بمثابة سبيل آخر للمقاومة. ويعمل الدفع الجيني المعتمِد على “كريسبر” عبر تمييز تسلسلات جينية قصيرة، وبالتالي فإنّ الكائنات التي لديها فروق في هذه المواضع قد تكون محصنة من تأثير الدفع الجيني. حلّلتْ دراسة حديثة3 جينومات تعود إلى 765 بعوضة من بعوض الملاريا البري الموجود في أنحاء أفريقيا. وجد الفريق تنوّعًا جينيًّا واسعًا؛ مما قد يحدّ من القائمة التي من الممكن استهدافها بالدفع الجيني، حسبما يعتقد الباحثون.

ويقول ميشيل ويد، اختصاصي علم الوراثة التطورية بجامعة إنديانا بلومنجتون: “هذه الأشياء لن تنجز الكثير فيما يخص القضاء على مجموعة من الكائنات الحية”. قد ينتج عن الدفع الجيني انعزالٌ وراثي – بحيث لا يتزاوج أفراد المجموعة الواحدة فيما بينهم – في المجموعات التي تنجح في تفادي وراثة الشفرة الجينية المُعدّلة، وهو ما توصَّل إليه ويد وزملاؤه4. وعندئذ، فإن التنوعات الجينية التي تقلل من نزعة أفراد مجموعة معينة، للاختلاط مع أفراد مجموعة أخرى–  مثل تلك التي تحُدّ من قدرة الحشرات على الطيران – قد تصبح فجأةً مفيدة، وقد تنتشر.

تُعَدّ مقاومة الدفع الجيني مسألة حتمية لا يمكن تفاديها، ولذا.. يأمل الباحثون في أن يستطيعوا تأخير التأثيرات ما يكفي من الوقت؛ لنشر الطفرة المرغوب فيها عبر مجموعة الكائنات الحية المُستهدفة. ومِن الباحثين مَن طرح فكرة إنشاء محركات جينية تستهدف عدة جينات، أو عدة مواضع في الجين نفسه، ومن ثم إبطاء سرعة تطوير المقاومة لدى الكائنات الحية. وعَبْر استقصاء ودراسة التنوّع الجيني الطبيعي لدى نوع معين من الكائنات الحية، يستطيع الباحثون استهداف جينات مشتركة لدى جميع أفرادها.

طوّر فريق استهداف الملاريا جيلًا ثانيًا من البعوض المتأثر بالدفع الجيني، آملين إبطاء تطوُّر المقاومة، حسبما يقول أندريا كريسانتي، اختصاصي علم الطفيليات الجزيئية في كلية لندن الإمبراطورية. ويخطِّط الباحثون لاختبار هذا البعوض في المنشأة الجديدة في إيطاليا في وقت لاحق من هذا العام؛ لتكوين فكرة عن الكيفية التي قد يتصرف بها في البيئة البرية، إلّا أن اختصاصي علم الأحياء الجزيئية توني نولان – من كلية لندن الإمبراطورية أيضًا – يتوقّع أن يفاجئنا “التطوُّر” ببعض النتائج، ويقول إن هذا هو أكثر ما يقلقه بشأن الدفع الجيني؛ أنْ نكتشف في النهاية أنه – ببساطة – غير فعّال.

المصدر