الجنس والأكاذيب وتصوير المخ: كيف تكشف تقنية fMRI عما يجري حقيقة في عقولنا
تأليف: باربارا جيه. سَهاكيان، وجوليا جوتوالد
مطبعة جامعة أوكسفورد: 2017.
منذ ظهورِه أولَ مرةٍ عام 1992، أحدَثَ التصوير الوظيفيُّ بالرنين المغناطيسي (fMRI) ثورةً في قدرتنا على رؤية المخ البشري في أثناء عمله، وعلى فَهْم العمليات التي تقف وراء الوظائف العقلية، مثل صناعة القرار. ومع نمو تقنيات تصوير المخ لتصبح أكثر قوة، امتد تأثيرُها من المعمل إلى العالم الحقيقي. في كتابهما “الجنس، والأكاذيب، وتصوير المخ” Sex, Lies, and Brain Scans، تقدم باربارا سَهاكيان، المتخصصة في علم النفس العصبي الإكلينيكي، وعالمةُ الأعصاب جوليا جوتوالد، وَقْفَةً مع بعض الطرق التي بدأ التصوير العصبي يؤثر بها على رؤيتنا للسلوك البشري وللمجتمع. وتُوازِنُ مناقشةُ المؤلفتَين بين حماسٍ مُستحَقٍّ لتقنية fMRI وتقديرٍ واعٍ لحدودها ومخاطرها.
نموذج لنشاط المخ صُمِّمَ بواسطة التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي.
بعد المقدمة الضرورية لشرح تقنية fMRI، التي تعتمد على قياس أكسجة الدم الوارد إلى المخ لتصوير النشاط العصبي، تتناول سهاكيان وجوتوالد سؤالًا مركزيًّا في مجال التصوير العصبي، وهو: هل تستطيع هذه التقنية قراءة الأفكار؟ تعتمد الإجابة إلى حد بعيد على تعريف المرء لقراءة الأفكار. ومثلما تُوجِزُ المؤلفتان، فقد جرى في السنوات الأخيرة استخدام المعلومات المأخوذة بواسطة fMRI في فك شفرة محتوى الأفكار (مثل الكلمات التي يراها أحد المشاركين في الدراسة) والحالات العقلية (مثل نِيَّةِ شخصٍ القيامَ بإجراءٍ ما)، حتى في أثناء النوم. حتى الآن، لا تكفي هذه الطرق لتمكين الباحثين من فك شفرة “لغة الأفكار”، وهي المقصودة ضمنيًّا بقراءة الأفكار، عند الكثيرين. ولكن في ظل الاستخدام المتنامي للطرق المتقدمة لِتَعَلُّمِ الآلة -مثل الشبكات العصبية العميقة- في تحليل البيانات الخاصة بالتصوير العصبي، قد يكون ذلك الأمر مسألة وقت فقط.
وُفِّقت المؤلفتان في تسليط الضوء على الحاجة إلى مناقشةٍ أعمق للاستخدام الأخلاقيِّ للتصوير العصبي، ففيما يتعلق بالنظر إلى تقنية fMRI على أنها أداة لكشف الكَذِب، تشير المؤلفتان إلى أن عيوب التقنية (المتمثلة تحديدًا في غياب درجةٍ يُعتد بها من الدِّقَّة) أبقَتْها حتى الآن خارج المحاكم الجنائية. وتشرح المؤلفتان بإيجاز شبكة المخ المستخدَمة في الأحكام الأخلاقية، وكيف يمكن أن تتعرض للتشوُّش في حالات مثل حالة المرض العقلي (C. L. Harenski et al. J. Abnorm. Psychol. 119, 863-874; 2010). ونظرًا لأنه ليس كل الأفراد المصابين بهذه الأمراض يرتكب أفعالًا إجرامية، تخلص المؤلفتان إلى أن التصوير العصبي يُحتمَل أن يكون وسيلةً غيرَ صالحة للتنبؤ بالسلوك الإجرامي. أما مجال بحوث “التسويق العصبي” الآخذ في الظهور فيثير بعض المخاوف أيضًا. واستنادًا إلى بحوث مثل دراسة “الكوكا مقابل البيبسي” (S. M. Mcclure et al. Neuron 44, 379-387; 2004)، التي تُبَيِّن أن نشاط المخ يكشف عن تفضيلات المستهلكين من البضائع، تطالب سهاكيان وجوتوالد بقوانين تنظيمية أقوى، للحيلولةِ دون إساءة استخدام هذه التكنولوجيا.
تناقش المؤلفتان واحدةً من المشكلات الأساسية في تفكير العامة بشأن علم الأعصاب –تلك التي غالبًا ما أسميها “الثنائية الشعبية”؛ وهي الفكرة القائلة بأن هناك اختلافًا على نحوٍ ما (وهو الأمر الحاسم في التطبيق القانوني للتصوير العصبي) بين المخ والعقل، وهو اختلاف وثيق الصلة بفهم أفعال البشر. وفي انتقاد لهذه الثنائية تقول المؤلفتان: “إن قولك ’مخي جعلني أفعل ذلك!‘ ليس له معنى، وهو شبيه بقولك إن جيه. كيه. رولينج أقنعت مؤلِّفةَ سلسلة روايات هاري بوتر، بكتابة سبعة كتب عن الصبي الساحر”.
تتمثل إحدى مفاجآت كتاب “الجنس، والأكاذيب، وتصوير المخ” في التغطية الثرية للبحوث السلوكية، فعلى سبيل المثال تُركِّز النقاشات الخاصة بالتمييز العرقي وضبط النفس، بشكل رئيسي، على الدراسات السلوكية أكثر من تصوير المخ. ولقد ثمَّنتُ ذلك، بالنظر إلى أن التصوير العصبي عمومًا لا يقل أهمية عن البحوث السلوكية التي تدعمه.
تتسم مناقشة المؤلفتين للتحديات المستمرة التي تواجه إعادة إنتاج بعض التأثيرات السيكولوجية بالصدق الذي يستحق الثناء. تعرض المؤلفتان -على سبيل المثال- مناقشةً عميقةً ومحايدة إلى حدٍّ كبير لما يسمى “نضوب الأنا”، الذي يفترض أن ممارسة ضبط النفس في أحد المجالات (مثل حلِّ مسألةٍ إدراكية صعبة) تنتقص من قدرة المرء على ممارسة ضبط النفس إزاء مشكلة أخرى (مثل تفضيل الأطعمة الصحية على غير الصحية). المعنى الضمنيُّ هنا هو أن ضبط النفس يشبه العضلة التي يمكن أن تتعب. ولقد كشفت كثير من الدراسات والتحليلات اللاحقة لها عن وجود أدلة على نضوب الأنا، لكن تجربةً واسعةَ النطاق قادها عالِما النفس مارتن هاجر ونيكوس شاتزيسارَنْتِس فشلت في الحصول على النتيجة نفسها (M. S. Hagger and N. L. Chatzisarantis Perspect. Psychol. Sci. 11, 546-573; 2016).
تحظى محدوديات طرق تطبيق تقنية التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي بتغطيات متباينة. وتُنَبِّه المؤلفتان إلى أن التقنية لا تكشف إلا عن علاقات الارتباط، ما يعني أن نشاط منطقةٍ ما من المخ عندما يشعر المرء بالخوف، لا يعني أن هذه المنطقة لها بالضرورة دورٌ في الشعور بالخوف. ويمكن الكشف عن الحتمية السببية فقط عن طريق التلاعُب بوظيفة منطقة معينة من المخ، إما من خلال تحفيز المخ، وإما من خلال دراسة حالات إصابة المخ بالعطب (مثلما يحدث نتيجة للجلطات الدماغية). ويُظهِر كثيرٌ من الدراسات على سبيل المثال أن القشرة أمام الجبهية البطنية الإنْسِيَّة (وهي ذات أهمية في اتخاذ القرارات المبنية على القِيَم) تنْشطُ عندما يفكِّر المشاركون في التجارب حول مدى استعدادهم لدفع المال مقابل سلعٍ استهلاكية. لكن دراساتٍ حديثةً وجدت أن بعض المصابين بعطب في هذه المنطقة، لا يُبدون أيَّ قصورٍ في مثل هذه القدرات (A. R. Vaidya and L. K. Fellows Nature Commun. 6, 10120; 2015).
عندي مآخذُ بسيطةٌ على الكتاب. للأسف، تناقش سَهاكيان وجوتوَالد مشكلةَ “الاستدلال العكسي” في موضع متأخر من الكتاب. يحدث ذلك عندما يستدل الباحثون على حالةٍ نفسيةٍ ما (ولتكن الخوف) بنشاطٍ يحدثُ في منطقةٍ محددةٍ بالمخ (مثل اللوزة الدماغية)، وهو أمر -كما تصفه المؤلفتان- مثير للجدل، لأنه من النادر أن تكون هناك استجابة مباشرة بين منطقة واحدة ووظيفة واحدة، فمعظم مناطق المخ ينشط في سياقات مختلفة كثيرة. غير أن المؤلفتين تستخدمان في عدة مواضع النوع نفسه من الاستدلال، لتفسير نتائج التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي.
ربما تكون المعضلات الأخلاقية التي نوقشت في كتاب “الجنس، والأكاذيب، وتصوير المخ”، قمة جبل الجليد؛ لأن التطورات العلمية تعزز قدرتنا على ’قراءة الأفكار‘. والسؤال هو: بمجرد أن يوفر التصويرُ العصبي إمكانيةَ التنبؤ الدقيق بالسلوك المستقبليّ، هل سنشهد عندها واقعًا مريرًا مثل ذلك الذي جَسَّدَه فيلم ستيفن سبيلبرج الذي أُنتِج عام 2002 “تقرير الأقلية” Minority Report ، الذي فيه كان يُلقى القبض على الناس بسبب جرائم لم يرتكبوها بعد؟ أم سنُصبِح قادرين على الموازنة بين حقوق الإنسان وبين القوة التي تمنحنا إياها التكنولوجيا؟ إن القضايا التي يثيرها هذا الكتاب تقدم أرضية جيدة ننطلق منها للتفكير في هذا العالم الجديد والشجاع والمميز.
المصدر