ببساطة.. دراسة “الشعبوية” لم تعد أمرًا كافيًا

يشرح عالِم الاجتماع ماتيس رودين لماذا يجب أن يدفع المزاج السياسي القاتم الأكاديميين للتحرك سريعًا، واتخاذ موقف.

كان البحث في الظاهرة السياسية لـ”الشعبوية”، تقليديًّا، أحد الموضوعات التي يختص بها المؤرخون، لكن، وخلال العقدين أو الثلاثة عقود الماضية، تطوَّر هذا الحقل الأكاديمي؛ ليضم فئات أخرى، كالمتخصصين في العلوم السياسية، وعلماء الاجتماع، والاتصال، وعلماء النفس. أما نحن، علماء “الشعبوية”، فلم نحظ من قبل بهذه الدرجة من الشعبية. ومنذ الانتخابات الرئاسية الأمريكية، انهمرت عليّ الدعوات الإعلامية للحديث عن “الشعبوية”، وعن الأسباب التي تقف وراء انتشارها.

كان أحد الأسئلة الأكثر شيوعًا هو ما إذا كان التاريخ يعيد نفسه، أم لا، أي ما إذا كان الوضع الحالي يشبه الصراع السياسي الذي ساد فترة الثلاثينات من القرن الماضي، أم لا. إنني لا أعتقد ذلك، فالوضع الحالي جديد كليًّا. وبالطبع هناك بعض أوجه التشابه، لكن هناك أيضًا اختلافات كبيرة جدًّا، أهمها أن الفاشيين والاشتراكيين ليسوا “شعبويين”، لأنهم غير ديمقراطيين، على عكس “الشعبويين”. فالساسة اليمينيون في المجموعة التي تتصدر حاليًّا عناوين الأخبار هم “شعبويون”. ويَظْهر ذلك في رغبتهم بأن تكون إرادة الشعب هي نقطة انطلاق عملية صنع القرارات السياسية.

ومن ثم، ينبغي – وفقًا لرسالتهم “الشعبوية” – أن تترجَم تلك الإرادة مباشرة – بقدر الإمكان – إلى قرارات سياسية فعلية. ويتم تصوير كافة القوانين، والقواعد، والإجراءات التي تقف في طريق هذا التعبير المباشر عن الإرادة العامة على أنها عوائق ينبغي إزالتها في أسرع وقت ممكن. فحقوق الأقليات مثلًا تُصَوَّر باعتبارها تعوق التعبير المباشر عن إرادة الشعب. فماذا عن الضوابط والتوازنات؟ إنها تؤخر عملية صنع القرار. وماذا عن التسويات السياسية؟ إنها تؤدي إلى التقليل من قيمة مقترحات السياسات، وتجرّها بالتالي إلى عدم الحسم. وماذا عن حال الإعلام الحر؟ إنه لا يمثل سوى مصالح “النظام القائم”.

وقد يحمل القليل من “الشعبوية” نفعًا، إذ يتيح إدراك حالة عدم الرضا، وتوسيع جدول الأعمال السياسي، لكن الشعبويين اليمينيين الحاليين يذهبون إلى أبعد من ذلك؛ فهم يُدْخِلون “العَداء للأجانب” في “شعبويتهم”، حيث يقولون إن الأمة تواجه تهديدًا من “الآخرين الخطرين”، مثل المهاجرين، أو الأقليات العرقية، أو الدينية. وكثيرًا ما يحدث خلط ومزج بين “الشعبوية”، و”العَداء للأجانب”، لكنهما أمران منفصلان ومختلفان.

في البداية، تبنَّيتُ وجهة النظر التي تقول إنّ على الأكاديميين الذين يدرسون هؤلاء السياسيين وأحزابهم التعامل بأكبر قدر ممكن من الموضوعية في دراستهم لهم؛ فينبغي أن يحاول الأكاديميون أن يكونوا مراقبين محايدين، يركِّزون على فهْم أسباب وعواقب صعود هذه الجهات السياسية الفاعلة، دون إصدار أحكام أخلاقية على الأنماط التجريبية التي تقابلهم.

وعلى هذا النحو، وعندما انتهيت من عرض أسباب وعواقب صعود الأحزاب “الشعبوية”، محلِّلًا العلاقة بين “الشعبوية”، والديمقراطية الليبرالية، ومبينًا الجوانب الإيجابية والسلبية لـ”الشعبوية”، كان استنتاجي دائمًا أقل حدّة. في أوروبا، كنت أقول إنّ لدينا مؤسسات ليبرالية قوية، ولم يكن هناك انتشار للروح الشعبوية. وإذا ما نجح الشعبويون في الوصول إلى الحُكْم؛ فسيكونون جزءًا من حزب ائتلافي صغير.

“يقع على عاتق الأكاديميين واجب أخلاقي لحماية الديمقراطية الليبرالية”

ومع ذلك.. فقد تغيرت الأمور، وخاض الشعبويون في المجر وبولندا تحديًا جديًّا ضد المؤسسات الليبرالية، وأصبح الخطاب الشعبوي أكثر انتشارًا، وعندما باتوا جزءًا من الحكومة؛ لم يعودوا مجرد شركاء صغار، لكن الشيء المقلق كان ضَمّ الأحزاب الرئيسة في أوروبا في صفوفها عناصر شعبوية ذات توجهات غير ليبرالية. ففي فرنسا، على سبيل المثال، أدَّت حالة الطوارئ الدائمة التي أُعلنت بعد الهجمات الإرهابية في باريس العام الماضي إلى شن مداهمات تعسفية على المواطنين وانتهاك حقوقهم. كما تختار أحزاب رئيسة عديدة في بلدان أوروبا الغربية الأمن على الحرية، ربما لشعورهم بأن “شعبويِّي” اليمين المتطرف يترصَّدونهم.

وبناء على ذلك.. غيرتُ رأيي ومنهجي، وسأظل محايدًا قدر الإمكان في عملي الأكاديمي، ولكنني أشعر – على نحو متزايد – بضرورة أن أشارك في النِّقاش العام حول هذا الموضوع، والتحذير في وسائل الإعلام من التوتر المتزايد بين “الشعبوية”، والديمقراطية الليبرالية.

وينبغي أن يتحدث المزيد من الأكاديميين ويُحَذِّروا من الطريق الذي نسير نحوه. وجزء من هذا يُعتبر لمصلحة ذاتية مباشِرة، فالأوساط الأكاديمية لن تكون في مأمن من هذا النوع من التدخلات “الشعبوية” التي نراها الآن في المجر وبولندا، وقد تمتد الهجمات “الشعبوية” ضد الضوابط والتوازنات، وحرية الإعلام إلى هجمات على الأوساط الأكاديمية أيضًا. ففي النهاية، لا يهاجم “الشعبويون” النخب السياسية والاقتصادية فحسب، بل يستهدفون أيضًا “المثقفين المختالين” في الأوساط الأكاديمية. وبالفعل، يَحْدُث مثل هذه الهجمات على الأكاديميين الآن في تركيا.

ويقع على عاتق الأكاديميين أيضًا واجب أخلاقي؛ لحماية الديمقراطية الليبرالية. فمن خلال تشجيع التعددية الاجتماعية والسياسية، يتيح النظام الظروف التي تسمح للباحثين بالقيام بعملهم، ومن ثم تحقيق مزيد من الازدهار العلمي، وهو ما يعتمد عليه الباحثون.

 لقد كانت أحداث عام 2016 مقلقة، ويقترب أول اختبار كبير في عام 2017 من بلدي، بصورة غير مريحة، ، حيث يتصدر “الشعبوي” خيرت فيلدرز – المنتمي إلى “الحزب الهولندي من أجل الحرية” – استطلاعات الرأي في الاستعداد للانتخابات الهولندية، المقرَّر عقدها في شهر مارس المقبل. وقد يحالفه الحظ بالفوز، ولكن مِن المستبعَد أن يصبح رئيس الوزراء المقبل في البلاد، حيث يتعين عليه تشكيل ائتلاف حكومي، إنْ لم يحصل على أكثر من 50% من المقاعد. وبما أن غالبية الأحزاب الأخرى رفضت بالفعل التعاون معه؛ أعتقد أنه من المستبعد أن يحكم البلاد، لكن من خلال تشكيل أربعة أو أكثر من الأحزاب الرئيسة لائتلاف حكومي، فإنّ رسالة فيلدرز ستكون أنّ المؤسسة السياسية باهتة، وربما يجعله هذا أكثر شعبية.

المصدر