استباقًا لاجتماع مهم حول المواد الكيميائية المعطِّلة للغدد الصماء، يناقش ليوناردو تراساندي ضرورة أن تتبع السياسةُ العِلْم.
بينما يُنْذِر انتخاب دونالد ترامب بقدوم موجة من الإجراءات التنظيمية البيئية في الولايات المتحدة، تستعد أوروبا لاتخاذ خطوة مهمة – وربما حاسمة – في سبل تنظيم المواد الكيميائية المعطِّلة للغدد الصماء (وتُسمَّى اختصارًا EDCs). تُوجَد هذه المواد في كل مكان.. في الطعام، ومستحضرات العناية الشخصية، وفي الأجهزة الكهربائية، والأثاث. كما تم رصدها على نطاق واسع في دم الإنسان، وبوله، بمستويات يُعتقد أنها قد تؤثر على الصحة. ورغم ذلك، ما زالت التدابير اللازم اتخاذها لمجابهة هذه المواد تأتي متأخرة، مقارنةً بتدابير مكافحة المواد الخطرة، كالمواد المسرطنة مثلًا. وكان من المقرر أن تتخذ دول الاتحاد الأوروبي في مطلع شهر ديسمبر الماضي خطوة مهمة في هذا الأمر، مع مراجعتهم للمعايير التي اقترحتها المفوضية الأوروبية لتحديد تلك المواد، وتنظيمها.
هناك أنواع كثيرة من المبيدات الحشرية تلوث الطعام، وتعطل الوظائف الهرمونية الضرورية لنمو الدماغ. ومِن المتوقع أنه فور تحديد معايير المواد الكيميائية المعطِّلة للغدد الصماء بشكل رسمي، قد تساعد إزالة هذه المبيدات في تفادي نشوء اضطراب التوحُّد وفقدان الإدراك، اللذين تم ربطهما بمسألة التعرض لمواد معينة في الرحم. كما أنّ تحديد معايير هذه المواد سيساعد في وضع سوابق علمية تمهِّد لسياسات أخرى – محلية وعالمية – لتنظيم المواد الكيميائية.
إنّ وضْع النقاشات العلمية، والسياسية التي تتناول المواد الكيميائية المعطلة للغدد الصماء حاليًّا يشبه الوضع الذي كانت عليه النقاشات الخاصة بالتغير المناخي قبل عقد مضى. وتشير الأبحاث إلى أنّ احتمال أن تسهم هذه المواد في الإصابة بالأمراض والإعاقات يفوق 99%. كما تَعْتَبِر الهيئات الدولية – ومِن بينها منظمة الصحة العالمية “WHO”، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، والمجلس الدولي لإدارة المواد الكيميائية – هذه المسألة من المخاوف الناشئة المتعلقة بالصحة العامة، إذ تمتد تأثيرات هذه المواد مدى الحياة، وتكبِّد المرضي حوالي 217 مليار دولار أمريكي سنويًّا في أوروبا، و340 مليار دولار في الولايات المتحدة (T. M. Attina et al. Lancet Diabetes Endocrinol. http://dio.org/bs55;2016)؛ حتى إنّ شركات إعادة التأمين نصحت عملاءها بتقليل استثماراتهم المالية المرتبطة بإنتاج واستخدام تلك المواد.
وكَرَدِّ فعل على ظهور هذه الأدلة، بدأ المدافعون، والمعنيون بشؤون البيئة في إلقاء الخطابات، وإطلاق التحذيرات. ومثلما كان الحال بالنسبة إلى الجدل حول التغير المناخي، سعت مجموعة صغيرة من العلماء – كثير ممن لديهم علاقات موثّقة بالمجال الصناعي – إلى إثارة الشكوك بقَدْر لا يتناسب مع مستوى الاختلاف العلمي.
إنّ العلماء الذين ينكرون مسألة تعطيل الغدد الصماء، ويُنَحُّون جانبًا التقارير الصادرة عن المتخصصين في المواد الكيميائية المعطِّلة للغدد الصماء، اتّسمت أعمالهم بعدم الدقة العلمية، وعدم التمثيل الصحيح للواقع. يرفض النقد العلاقات المحددة غير الخطية والمتقلبة التي تربط التعرض لتلك المواد بالاستجابة لها، والمستنبطة من دراسات استخدمت فيها جرعات قليلة، وذلك رغم كونها موثقة بشكل جيد، فهم يختارون دراسات كثيرًا ما تكون مجموعات الضبط فيها “ملوّثة”، أو بها مشكلات منهجية أخرى، لادعاء أنّ تأثيرات هذه المواد محدودة. كما جادلوا في مسألة أنّ دراسات كثيرة أُجريت على المواد الكيميائية المعطلة للغدد الصماء تستند إلى علاقات متبادلة، وليست سببية.
إن النتائج الضارة التي تظهر بسبب الغدد الصماء معقدة، وكثيرًا ما تضيع في النقاشات مسألة أن الاكتشافات المتعلقة بتأثيرات المواد المعطلة لها تُضبط بحرص؛ لاستبعاد العوامل المشوشة. كما تتسق النتائج في البشر مع تلك الخاصة بالمختبرات، وبالتالي فهي تدعم الدليل على وجود علاقة سببية.
فما الذي تجب مناقشته عند مراجعة المعايير؟ تُعرِّف منظمة الصحة العالمية المواد الكيميائية المعطلة للغدد الصماء بأنها “مركّبات أو خلطات خارجية تغيِّر من وظائف جهاز الغدد الصماء، وبالتالي تترك تأثيرات ضارة في الكائن الحي السليم، أو ذريته، أو مجموعاته الفرعية”، لكنْ بتعديل يبدو حميدًا، تستبدل مسودة المعايير التي وضعتها المفوضية الأوروبية عبارة “نتيجة لذلك” إلى “معلوم أنّها”، واضِعِين بذلك عبئًا إضافيًّا يزيد من صعوبة العثور على الدليل المطلوب لتصنيف مادة كيميائية على أنها مادة معطلة للغدد الصماء.
“ينبغي على البرلمان الأوروبي حماية صحة الإنسان”.
وخلافًا للمواد المسرطنة، والمواد المُسَبِّبة للطفرات الجينية، والمواد السامة للصحة الإنجابية، التي يمكن التعرف عليها من خلال الدراسات التي تتم على الحيوانات الخاضعة لقوانين الاتحاد الأوروبي، تَشترِط مسودةُ معايير المواد الكيميائية المعطِّلة للغدد الصماء توافُر بيانات بشرية حول تأثيراتها الصحية، ونظرًا إلى أنّ تلك التأثيرات قد تظهر بعد مرور سنوات – إنْ لم تكن عقودًا – من التعرّض للمواد، قد يعاني جيل كامل من عواقب صحية، بسبب التأخر في ضبط المسألة. ومن المفترض أن تكون الدراسات المجراة على الحيوانات، أو في المختبر، مقبولة؛ كما يمكن الجزم بأنّ هذه هي أهم التغييرات المطلوبة.
وإضافةً إلى ذلك.. هناك خطأ آخر كبير، ارتكبته المفوضية، هو إغفال التمييز المهم بين عامل الخطر، والخطورة، بموجب قوانين الاتحاد الأوروبي. ويعني التمييز بينهما أنّ اعتبارات مدى قدرة الاستجابة – وهو التأثير التقليدي للعلاقة بين التعرُّض، والاستجابة – لا يجب أن تدخل في مسألة تحديد القرار، فيما إذا كان التعرض لمبيد حشري مثلًا يشكل خطرًا، أم لا. ومن الضروري أخْذ هذا المبدأ المهم في الحسبان عند اكتتاب ضوابط معطِّلات الغدد الصماء، علمًا بأنه قد حُسِم كاتفاق علمي في اجتماع أقيم ببرلين في شهر إبريل الماضي. وقد وَحَّد هذا الاجتماع بين أصوات الأقلية من العلماء والباحثين الرئيسين، الذين عملوا على إصدار تصريح علمي من قِبَل جمعية الغدد الصماء (A. C. Gore et al. Endocr. Rev. http://doi.org/bs69; 2015). وقد وافق المشاركون في الاجتماع على أنّ تعريف منظمة الصحة العالمية كان مناسبًا، وأن القدرة على الاستجابة أمر غير مناسب للتعرف على عوامل الخطر من قبيل المواد الكيميائية المعطلة للغدد الصماء.
وينبغي على البرلمان الأوروبي استخدام المعايير القائمة على أسس علمية لحماية صحة الإنسان. كما يجب أن يتم الاعتراف في معايير المواد الكيميائية المعطلة للغدد الصماء تلك بالثقل المتزايد للأدلة الخاصة، وما تحدثه المواد الكيميائية من اضطراب في الهرمونات، وإسهامها في إحداث النتائج الضارة. من شأن هذا النهج أن يتيح وصف المواد الكيميائية بأنها مواد معطِّلة للغدد الصماء، أو مواد يُشتَبَه في أنّها معطلة للغدد الصماء، أو مواد ذات فعالية على الغدد الصماء، أو مواد غير فعالة تجاه الغدد الصماء. ومِثل النهج الذي استُخدم لإعادة تقييم المواد المحتمل أن تكون مسرطنة، والمواد السامة للصحة الإنجابية، يمكن إعادة النظر في تصنيف المواد مع ظهور أدلة جديدة.
يواصل بعض الباحثين الذين شاركوا في وضع بيان اتفاق برلين الجدلَ، معترِضين على وجود حاجة إلى حماية الصحة العامة، لاجئين إلى الهجوم الشخصي؛ إذ ادعوا أن أبحاثًا أكاديمية كانت قد مرت بمرحلة مراجعة الأقران هي بمثابة علم كاذب. وعلى النقيض من الإعلام الأمريكي، الذي واجه انتقادات، بسبب عدم قدرته على إدراك الحقيقة من الخيال فيما يخص الحملة الانتخابية، علينا أن نصمد في الدفاع عن المبادئ العلمية، وإلّا فإنّ انعدام ثقة الجماهير سيجعل من البدائل المناهِضة للعلم أمورًا مقبولة.
المصدر