التنبؤ بتقلبات المحيط

خليج وايتهافن في الحيد المرجاني العظيم بأستراليا.

خليج وايتهافن في الحيد المرجاني العظيم بأستراليا.

Yann Arthus-Bertrand/Getty

تتحكم المحيطات في مناخ الكرة الأرضية، مثلما تحمي السواحل وتمدنا بالطعام ومياه البحر النظيفة والأكسجين.

احتوى التقييم الأخير – دون غيره – للجنة الدولية للتغيرات المناخية IPCC)،12) لعام 2014 على فصول تختص بالمحيطات. وتقوم اللجنة الآن بإعداد تقرير خاص يجمع بين تخصصات متعدية، يتعلق بالمحيطات والغلاف الجليدي (وهي المناطق الثلجية والجليدية على سطح الأرض). وكان من المنتظر أن تقرر مجموعة من العلماء في شهر ديسمبر الماضي ما يجب أن يشمله التقرير، وهو المقرر نشره في عام 2019.

إن تقديم تنبؤات مستقبلية قوية يمكن ترجمتها إلى سياسات عملية أمر مهم، كما يجب أن يتوافق التقرير مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة (United Nations’ Sustainable Development Goals)؛ التي من بينها الهدف رقم 14، على سبيل المثال، الذي يكلف الحكومات “بإدارة الأنظمة البيئية البحرية والساحلية على نحو مستدام، وحمايتها من التلوث القادم من اليابسة، إلى جانب مواجهة ومعالجة آثار تحمُّض المحيطات”. كما يجب أن يساعد التقرير مديري البحار على اتخاذ القرارات في التو واللحظة.

ويتطلب الأمر أن تغيِّر اللجنة من نهجها. ويجب عليها أن تقدم تنبؤات قصيرة المدى، وأخرى طويلة المدى حول التغير المناخي، وعليها أيضًا أن تدرك الطبيعة المتغيرة للمحيطات، وليس فقط متوسط التغيرات العالمية. ولذا.. يجب أن يشمل تقريرها تنبؤات لكيفية تسبُّب التغير المناخي الطبيعي، وذلك الذي يسببه النشاط البشري في التقلبات والتغيرات في درجات حرارة السطح ودرجات الحموضة، وكذلك توقعات قصيرة المدى للأوضاع المتطرفة، مثل موجات الحرارة البحرية على المستويات الإقليمية، والآليات البيولوجية التي تدعم كيفية استجابة الكائنات الحية الرئيسة، وبالتالي الأنظمة البيئية المهمة للتغير المناخي.

من شأن ذلك أن يُخْرِج اللجنة عن المألوف بالنسبة لها؛ إذ إن التوقعات التي تغطي عقودًا من الزمن، وكذلك البؤر الإقليمية تحوي قدرًا أكبر من عدم التيقن، بيد أن توافر هذه المعلومات أمر مهم؛ من أجل حماية البحار.

مياه صاخبة

غالبًا ما يتم تمثيل التأثيرات التي يحدثها التغير المناخي على المحيطات برسوم بيانية. وتعبر الخطوط عن توقعات لمتوسط المقادير العالمية طويلة المدى، مثل الارتفاع الحاد في متوسط درجات حرارة سطح البحر، أو زيادة التحمُّض، إلا أن المحيط الحقيقي في الواقع متقلب وصاخب، وتتغير الأجواء فيه بشكل سريع وبطيء في الوقت نفسه، إلى جانب حدوث تغيرات أخرى محلية وإقليمية وعالمية.

لذا.. من المهم تحديد متوسط حالات المحيط على المدى الطويل، وسيتضح في النهاية أن تأثير تغيُّر المناخ الذي يحدث بسبب النشاط البشري أكبر من تأثير التغيرات الطبيعية التي تحدث باستمرار3. يُعرف هذا التحول بالـ”بزوغ”، إلا أننا لم نصل إلى هذه النقطة بعد، فلا يزال التأثير الذي يتركه التغير المناخي حاليًّا على حالة المحيط بسبب النشاط البشري مشابه لتأثير التغيرات المناخية الطبيعية والإقليمية، مثل تذبذب “إلنينيو” الجنوبي، ودورات الرياح، ودرجات حرارة سطح البحر في المناطق المدارية شرق المحيط الهادئ؛ وبالتالي يصعب فصلهما عن بعضهما البعض.

سيحدث البزوغ في أوقات مختلفة وفي أماكن مختلفة، إذ تسجِّل المناطق المدارية – على سبيل المثال – درجات حرارة متطرفة الآن، بينما يبقى البزوغ بعيدًا عشرات العقود عند مناطق خطوط العرض المتوسطة4.

قد يوازن تقلُّب المناخ الطبيعي اتجاهات التغيرات، أو يضخِّمها بصورة مؤقتة (انظر: “قراءة الأمواج”)، فمثلًا، البطء الظاهر5 في وتيرة ارتفاع متوسط درجات الحرارة في العالم بين عامي 1998، و2012، أو توقُّفه، أدى ببعض المنتقدين إلى التقليل من شأن التغيرات المناخية التي يسببها النشاط البشري، بينما يعكس التقلب الطبيعي أيضًا ظروفًا أكثر تطرفًا، مثل حدث الاحترار “إلنينيو” القوي الأخير.


كبر الصورة
Source: A, Ref. 3; B, NOAA, Equatorial Pacific Sea Surface Temperatures. http://go.nature.com/2f9gwg9

ومع تزايد تغيرات المناخ بسبب النشاط البشري، من المتوقع أن تصبح فترات الظروف المتطرفة6 أكثر تكرارًا وقوةً وطولًا، كما ستكون لها آثار سيئة على النظم البيئية البحرية7، فمثلًا، في عام 2011، تعرَّض ساحل أستراليا الغربي لارتفاع في درجات حرارة سطح البحر بمقدار 2-4 درجات عن المتوسط، واستمر الأمر لعشرة أسابيع. كما انكمشت غابات الأعشاب البحرية هناك بنسبة 43%، وهي التي كان يبلغ طولها في العادة 800 كيلومتر7.

إن هذه التقلبات مربكة بالنسبة لمديري الموارد البحرية وصنّاع السياسات، وكذلك العامة؛ إذ تجعل اتخاذ القرار بخصوص كيفية التأقلم مع التغير المناخي أمرًا صعبًا، كما تجعل التنبؤات قصيرة المدى غير موثوق فيها.

أفعال محلية

ترتبط العمليات التي تحدث في المحيط بتلك التي تحدث في الجو، ولذا.. فإن الروابط طويلة المسافة بين أنماط المناخ الإقليمية المختلفة تربك كذلك التوقعات والقياسات البحرية المحلية.

يحتاج صنّاع السياسات ومديرو البحار معرفة المزيد عن هذا التقلب وآثاره، فالمقاييس الإقليمية والمحلية هي الأكثر ارتباطًا بإدارة الموارد البحرية. وستكون هناك بؤر تغيُّر ساخنة، مثل مواقع موجات الحرارة البحرية7، أو الأماكن التي يتجاوز فيها الاحترار الإقليمي المتوسط العالمي، مثل غرب شبه الجزيرة القطبية الجنوبية، إلا أن الأمور التي تحدّ من دقة ونطاق نماذج الانتشار العالمي تجعل من الصعب تمثيل التغيرات التي تحدث في المناطق الساحلية. ونادرًا ما تتفق التنبؤات الإقليمية المستخلَصة من النماذج المناخية العالمية، كما أنها تَستبعِد الضغوط البشرية الأخرى، مثل تلك التي يسببها الصيد والتلوث.

يحتاج  تقرير اللجنة الخاص إلى تمييز كيف ستؤدي الضغوط العالمية، والإقليمية، والمحلية المتداخلة في زيادة الضغط على الأنظمة البيئية البحرية، والخدمات في مناطق معينة. ومن شأن ذلك أن يساعد المديرين المحليين على كسب مزيد من الوقت؛ لتخفيف التأثيرات المشتركة للعوامل المتعددة. وعلى سبيل المثال.. من شأن التحكم في جريان الرواسب والمغذيات والملوثات في المياه الساحلية بالقرب من الحيد المرجاني العظيم بأستراليا (انظر، على سبيل المثال: go.nature.com/2ex5leq) أن يعطي للشعاب المرجانية فترةَ راحة من تأثير الانتشار المدمر لنجم البحر ذي التاج الشوكي (Acanthaster planci)، الذي قد يزيد الضغط الطبيعي الذي يسببه التبييض (وهي عملية طرد الطحالب تحت ظروف أكثر دفئًا) أثناء أحداث “إلنينيو”.

يتطلب تطوير السياسات البحرية الإقليمية والمحلية فَهْمًا أفضل للآليات الحاكمة، وللإدارة، وللممارسات التجارية. ولابد أن يشمل تقرير اللجنة أمثلة على استخدام المعرفة المحلية لدعم السياسات، من خلال مجموعات العمل الثلاث (كمثال الحيد المرجاني العظيم). ولا يزال هناك تركيز كبير على الإشارات الظاهرية للتغير المناخي8. ويتطلب الأمر إجراء دراسات متعددة التخصصات، حول أطر العمل القانونية والاقتصادية التي تدعم المرونة الإقليمية، اجتماعيًّا وبيئيًّا.

قصة حياة

التحدي الأخير الذي يواجه علماء المحيط هو وصف كيفية استجابة الحياة البحرية في الأنظمة البيئية المختلفة للمنظومة المعقدة للتغير الذي يسببه النشاط البشري. لم يتمكن علماء الأحياء حتى الآن من التوصل إلى فهم كامل للاستجابات المتراكمة للمكونات الرئيسة في الأنظمة البيئية تجاه المناخ المتغير. وما لدينا الآن هو لمحات لرد فعل واستجابة أنواع قليلة من كائنات الشبكات الغذائية الساحلية للأوضاع الأكثر حموضة، أو الأكثر دفئًا.8

وقد تتفاعل الكائنات الحية بنمط غير خطِّيّ1. فإذا كان نوع معين من الكائنات يعيش بالفعل في أعلى درجة حرارة يمكنه تحمُّلها، فإنّ أيّ ارتفاع في درجة الحرارة قد تكون له تداعيات قاتلة، بينما قد يحسِّن انخفاض الحرارة من لياقته، فمثلًا، يُعتقد أن العديد من أنواع العوالق في المحيط المداري تعيش بالقرب من الحد الأقصى لدرجات الحرارة التي يمكنها تحمُّلها8.

ويجب أن تعكس التجارب نطاقًا أوسع من التغيرات المحلية التي تتعرض لها المحيطات، والتي سوف تحدث في السنوات والعقود القادمة. كما يحتاج الباحثون إلى أن يضعوا في الاعتبار كيف تؤثر الظروف المتطرفة والمتقلبة على وظائف الأعضاء. فعلى سبيل المثال.. قد تزيد أحداث “إلنينيو” من معدلات وفيات بعض الأنواع في المحيط الهادئ، عن طريق زيادة الاحترار الذي يسببه النشاط البشري، بينما تمنحها مرحلة “لانينيا” الأبرد فترة راحة. وتبقى الأسئلة مفتوحة حول كيفية توازن هذه العمليات، إذا كانت فترات الراحة طويلة بما يكفي للسماح بالتعافي، وأيّ الأنواع ستكون الأكثر تأثرًا. وتؤثر هذه الشكوك بشكل أساسي على قدرتنا على التنبؤ بالتأثيرات المجتمعية لهذه التغيرات البيئية.

تُعَدّ الأماكن التي تَخَطَّى فيها الاحترار الآن المتوسط العالمي معامل طبيعية9. وهي تضم المحميات البحرية، مثل جُزُر “جالاباجوس”، والمناطق التي يعتمد الإنسان فيها بكثرة على الموارد المحيطية، مثل جنوب شرق آسيا، وغرب أفريقيا9. وأظهرت تقييمات التأثير البيئي في هذه الأماكن أن بعض التغيرات البيئية – مثل فقدان أعشاب البحر الأسترالية – لا يمكن عكس تأثيرها، حتى لو عادت البيئة الطبيعية إلى أوضاعها المتوسطة7، فأثناء موجات الحر – على سبيل المثال – تهاجر الأنواع التي تعيش في المياه الأكثر دفئًا إلى مواطن مائية أكثر برودة، حيث قد تحل محل الأنواع المستوطنة. ولذلك.. فإن الأحداث المتطرفة قد تدفع الأنظمة البيئية نحو أحداث أكثر جسامة.

إنّ وصف تقلبات المحيط من شأنه أن يؤكد أن تقرير لجنة IPCC هو بمثابة جسر يُبنى نحو أهداف التنمية المستدامة. ولا بد أن ينعكس ذلك على الاختيارات التي قررها اجتماع خبراء المحيط في شهر ديسمبر الماضي.

المصدر